بسم الله الرحمان الرحيم
بدعة قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة
اعلم أن الاجتماع لقراءة القرآن في المسجد في غير
أوقات الصلاة مشروع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير أوقات
الصلاة مشروع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( و ما اجتمع قوم في
بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم
السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده ، و من
بطأ به عمله لم يسرع به نسبه )) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
لكن الاجتماع لقراءة القرآن الموافقة لسنة النبي -
صلى الله عليه وسلم - و عمل السلف الصالح أن يقرأ أحد القوم و الباقون
يسمعون ، و من عرض له شك في معنى الآية استوقف القارئ ، و تكلم من يحسن
الكلام في تفسيرها حتى ينجلي تفسيرها ، و يتضح للحاضرين ، ثم يستأنف القارئ
القراءة . هكذا كان الأمر في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - و بعده
إلى يومنا هذا في جميع البلاد الإسلامية ما عدا بلاد المغرب في العصر
الأخير ، فقد وضع لهم أحد المغاربة و يسمى (( عبد الله الهبطي )) وقفاً
محدثاً ليتمكنوا به من قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة ، فنشأ عن ذلك بدعة
القراءة جماعة بأصوات مجتمعة على نغمة واحدة و هي بدعة قبيحة تشتمل على
مفاسد كثيرة :
الأولى : أنها محدثة و قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة )) .
الثانية
: عدم الإنصات فلا ينصت أحد منهم إلى الآخر ، بل يجهر بعضهم على بعض
بالقرآن ، و قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله : (( كلكم
يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ، و لا يؤذ بعضكم بعضاً )) .
الثالثة
: أن اضطرار القارئ إلى التنفس و استمرار رفقائه في القراءة يجعله يقطع
القرآن و يترك فقرات كثيرة فتفوته كلمات في لحظات تنفسه ، و ذلك محرم بلا
ريب .
الرابعة : أنه يتنفس في المد المتصل مثل : جاء ، و شاء ، و
أنبياء ، و آمنوا ، و ما أشبه ذلك فيقطع الكلمة الواحدة نصفين ، و لا شك في
أن ذلك محرم و خارج عن آداب القراءة ، و قد نص أئمة القراءة على تحريم ما
هو دون ذلك ، و هو الجمع بين الوقف و الوصل ، كتسكين باء (( لا ريب )) و
وصلها بقوله تعالى : { فيه هدى } قال الشيخ التهامي بن الطيب في نصوصه :
الجمع بين الوصل و الوقف حرام نص عليه غير عالم همام
الخامسة
: أن في ذلك تشبهاً بأهل الكتاب في صلواتهم في كنائسهم ، فواحدة من هذه
المفاسد تكفي لتحريم ذلك ، و الطامة الكبرى أنه يستحيل التدبر في مثل تلك
القراءة و قد زجر الله عن ذلك بقوله في سورة محمد : { أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوب أقفالها } و نحن نشاهد معظم من يقرأ على تلك القراءة لا يتدبر
القرآن و لا ينتفع به ، و تا الله لقد شاهدت قراء القرآن على القبر فلم
يتعظوا بمشاهدته و لا برؤية القبور و لا بما يقرؤونه من القرآن ، فقبح الله
قوماً هذا حالهم (( و بعداً للقوم الظالمين )) .
قال أبو إسحاق الشاطبي
في (( الاعتصام )) : (( و اعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على
المشروع يصير وصفاً له أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما بالقصد
، و إما بالعبادة ، و إما بالزيادة أو بالنقصان .
إما بالعبادة كالجهر و
الاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان ، فإن بينه و بين الذكر
المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمضادين عادة ، و كالذين حكى عنهم ابن وضاح
عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : (( مر عبد الله برجل يقص في المسجد على
أصحابه و هو يقول : سبحوا عشرا و هللوا عشرا ، فقال عبد الله : إنكم لأهدى
من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أضل ؟ بل هذا (( يعني أضل )) )) .
و
في رواية عنه : أن رجلاً كان يجمع الناس فيقول : رحمه الله من قال كذا و
كذا مرة (( الحمد لله )) . قال فمر بهم عبد الله بن مسعود فقال لهم : ((
هديتم لما لم يهد نبيكم ، و إنكم لتمسكون بذنب ضلالة )) ، و ذكر لهم أن
ناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم و قد كوم كل رجل بين يديه
كوماً من حصى قال : فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد و يقول :
(( لقد أحدثتم بدعة و ظلماً و كأنكم فقتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -
علما )) )) انتهى .
تعليق : و قد روى هذا الحديث عن ابن مسعود من طرق
كثيرة بعبارات مختلفة لفظاً و متفقة معنى ، بعض الروايات مطول و بعضها
مختصر و فيه فوائد :
الأولى : هذا الحديث موقوف و لكنه في حكم
المرفوع ، لأن ابن مسعود صرح بأن ذلك مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ففي بعض الروايات : (( و يحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ، هذه
ثيابه لم تبل ، و أوانيه لم تكسر ، و نساؤه شواب ، و قد أحدثتم ما أحدثتم
)) ، و في رواية أخرى أن عبد الله بن مسعود لما طردهم من مسجد الكوفة و
رماهم بالحصباء ، خرجوا إلى ظاهر الكوفة و بنوا مسجداً و أخذوا يعملون ذلك
العمل ، فأمر عبد الله بن مسعود بهدمه فهدم .
الثانية : أن البدعة و
إن كانت إضافية شر من المعاصي كما حققه أبو إسحاق الشاطبي فهي حرام ، إنما
كانت شراً من المعاصي لأن المعصية يفعلها صاحبها و هو معترف بذنبه فيرجى
له أن يتوب منها .
الثالثة : أن المبتدع يستحق العقاب و الطرد من المسجد إن كان الابتداع فيه .
الرابعة
: أن كل مسجد بني على قبر أو بني لارتكاب البدع فيه يجب هدمه ؛ لأنه مثل
مسجد الضرار الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه و إحراقه ،
فهدمه أصحابه و جعل كناسة ترمي في الجيف ، و قد نقل غير واحد عن ابن حجر
الهيثمي أنه قال : (( إن هذه المساجد المبنية على القبور هي أحق بالهدم من
مسجد الضرار )) ، و ابن حجر هذا كان مبتدعاً ضالاً و لكنه في هذه المسألة
قال الحق ، و الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها حيث وجدها .أما
الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني فهو إمام محقق لم يشرح أحد صحيح البخاري
مثل شرحه المسمى بـ (( فتح الباري )) و لذلك قال العلماء : (( لا هجرة بعد
الفتح )) . أي لا شرح للبخاري يستحق الاعتبار بعد فتح الباري ، ثم قال أبو
إسحاق عاطفاً على البدع المنكرة : (( و من أمثلة ذلك أيضاً : قراءة القرآن
على صوت واحد ، فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة ، و كذلك الجهر
الذي اعتاده أرباب الرواية )) انتهى .
قال محمد تقي الدين : و العجب من
هؤلاء المشركين المبتدعين الضلال ، فإنهم يتلونون تلون الحرباء لا يستقرون
على حال أبداً ، فتارة يدعون أنهم مقلدون لمالك ، و يرون من خالف مذهبه كمن
خالف القرآن و السنة الثابتة المحكمة ، و يغلون في ذلك إلى أن يجعلوا
البسملة و التعوذ و قراءة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية و الجهر بالتأمين و
وضع اليمنى على اليسرى و رفع اليدين عند الركوع و الرفع منه و بعد القيام
من التشهد الأول ، و السلام تسليمتين ( السلام عليكم و رحمة الله و بركاته )
و ما أشبه ذلك من السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي
يراها من له أدنى إلمام بالفقه في الدين كالشمس في رابعة النهار كأنه يشاهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها لا يشك في ذلك و لا يرتاب فيه ،
يجعلون ذلك من المنكرات التي يجب أن تغير ، و يكتب فيها من بلد إلى بلد مع
أن مالكاً في الحقيقة قائل ببعضها تفصيلاً و بسائرها إجمالاً ، ثم يخالفون
فيما ينهى عنه و يكرهه كراهة تحريم من البدع التي لا تسند إلى أي دليل
كعبادة القبور و زيارتها زيارة بدعية ، و قراءة القرآن على الميت بعد موته و
على قبره ، و قراءة القرآن جماعة بصوت واحد ، و قراءة الأذكار و الأوراد
كذلك ، و قد صرح بذلك خليل الذي يعدون مختصره قرآناً يتلى غلواً منهم و
ضلالاً .
قال في مختصره عاطفاً على المكروهات : (( و جهر بها في مسجد
كجماعة )) ، و لا يبالون بخلافه فيما اعتادوه من البدع ، فيحلونه عاماً و
يحرمونه عاماً ، و ما أحسن قوله تعالى في سورة القصص يخاطب رسوله - صلى
الله عليه وسلم - : { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . و من
أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله . إن الله لا يهدي القوم الظالمين }.
منقول من كتاب (الحسام الماحق لكل مشرك و منافق) للشيخ تقي الدين الهلالي