العقيدة والإصلاح!
حارث العلي
الحمد للًه رب العالمين، مُرسل المرسلين، منزل الكتاب المبين، ليكون شرعة للعالمين،
مهيمنا على ما سواه من كتب، ناسخا لما سبقه من شرائع سماويه، مبطلا لنظم
بشرية وضعيه، وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبداللًه، صلاة وتسليما،
ما أعقب ليلا نهارا، وما أخلف صباحا مساء، وعلى آله، وصحبه، إلى يوم
الدين، وهو المُوحى إليه بشرع رباني، ودين آلهي، من آمن به، وعمل بموجبه،
فقد أسعد نفسه، وأرضى ربه عز شانه، ومن كفر به، أو تهاون في العمل به، فله
حظه من الشقاء والبوار، وخط على نفسه الهلاك والدمار، وبعد:
فلقد
أنزل الًله تعالى كتابه، وأرسل رسوله محمد صلى اللًه عليه وآله وسلم،
لتخلص له سبحانه جميع أنواع العبادة، وهو القائل سبحانه: " قل أني أمرت أن
أعبد اللًه مخلصا له الدين "، الآية 11 من سورة الزمر، وذلك يكون " بإخلاص
العبادة للًه وحده لا شريك له "، (ابن كثير، 4 / 48) أهـ، ويكفر بجميع
الطواغيت، بدلالة قوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
اللًه واجتنبوا الطاغوت " الآية 36 من سورة النحل، والطاغوت هو " ما تجاوز
به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع، ورؤوس الطواغيت خمسة، إبليس
لعنه الًله، ومن عُبد وهو راض، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن دعا الناس
إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل اللًه " (الدرر السنية، 1 / 136)
أهـ.
ولا يتم إيمان للمرء إلا بهما: بالإيمان
بإن اللًه تعالى هو المعبود بحق لا سواه، وأن جميع الآلهة من دونه باطل
عبادتها، وباطلة هي في ذاتها، لا تستحق تأليها، ولا تقديسا، ولا تكريما،
بل تستوجب تصغيرا، ونبذا، وإهانة، وكفرا بها، لكونها من الطواغيت الواجب
على المسلم الكفر بها، والتبرء منها، والإيمان بإن من مقتضى عبادته سبحانه
وتعالى، أن تكون عبادته بما شرع، فيما أوحاه لعبده محمد بن عبداللًه صلى
اللًه عليه وآله وسلم، لا بالأهواء، والبدع، ومُحدثات الأذهان وأوضاع
البشر، فالتوحيد نوعان:
1 - توحيد
المعبود الحق وهو اللًه عز وجل، بصرف جميع أنواع العبادة له سبحانه،
معتقدا أحقيته بها، دون غيره، والكفر باستحقاق غيره - سبحانه وتعالى -
لشيء منها.
2 - وتوحيد المتبوع وهو ما شرعه عز شأنه، ونزله على قلب عبده محمد عليه
الصلاة والسلام، كشريعة خاتمه، ناسخة غير منسوخه، إلى قيام الساعه، والكفر
بما دون ذلك من شرائع وضعتها أهواء البشر، وأفكار الناس، والأعتقاد بأن
شرائع الأنبياء والرسل عليهم السلام، ممن بُعث قبل رسولنا الكريم عليه
الصلاة والسلام، قد نسخت، ورفعت، فلا عمل إلا بالشريعة الإسلاميه، ولا دين
إلا الملة الحنيفيه، من دان بهذا فهو المسلم، وإلا فهو الكافر، وهذا
إجمالا.
لقد بعث اللًه عز وجل، الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، بدعوة تجريد
التوحيد له سبحانه، وإخلاص العبادة لوجهه الكريم، وإخراج المكلف من داعية
هواه إلى داعية طاعة مولاه، طاعة تبدأ بتحقيق التوحيد، واتباع ما شرعه، إذ
لا مألوه بحق سواه، ولا دين إلا ما سنه وارتضاه، ولا ينفع اتباع الشرع مع
الكفر باللًه عز وجل، كما لا يجدي مع الكفر والشرك طاعه، ولو تتبعنا دعوة
الرسل عليهم السلام، ممن سبقوا رسولنا محمد صلى اللًه عليه وآله وسلم،
لوجدنا بدآيتها قد بدأت بدعوة أقوامهم لعبودية اللًه عز وجل والكفر
بالطاغوت واجتنابه.
يقول الحق سبحانه وتعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه
لا إله إلا أنا فاعبدون)، الآيه 25 من سورة الأنبياء، ويقول جل شأنه:
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا اللًه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من
هدى اللًه ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان
عاقبة المكذبين) الآيه 36 من سورة النحل، والمعنى: " ولقد بعثنا أيها
الناس في كل أمة سلفت قبلكم رسولا، كما بعثنا فيكم، بان اعبدوا اللًه وحده
لا شريك له، وأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العباده (واجتنبوا الطاغوت)
يقول: وابعدوا عن الشيطان، واحذروا أن يغويكم ويصدكم عن سبيل اللًه فتضلوا
" (ابن جرير، 13 / 125) أهـ، واللًه عزّ وجل حين يُخبر بذلك إنما: " يُخبر
تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمه أو متأخره إلا
وبعث اللًه فيها رسولا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد، وهو
عبادة اللًه وحده لا شريك له "، (تفسير السعدي 4 / 119) أهـ.
إن القرآن الكريم عرض تلكم الدعوات، وأفصح عن السبيل المسلوك إيما إفصاح،
وجلا الطريق الذي اتبعه جميعهم، وما حادوا عنه في دعوتهم لأقوامهم، يقول
اللًه عز وجل: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا اللًه مالكم
من إله غيره أفلا تتقون)، الآيه 59 الأعراف، ويقول سبحانه: (وإلى عاد
أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا اللًه مالكم من إله غيره أفلا تتقون)، الآيه
65 الأعراف، ويقول جل شانه: (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا
اللًه مالكم من إله غيره)، جزء من الآيه 73 الأعراف، ويقول اللًه تعالى:
(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا اللًه مالكم من إله غيره)، جزء
من الآية 85 الاعراف، ويقول الحق: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي
إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)، الآيه 25 سورة الأنبياء، ويقول المولى
سبحانه: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا
اللًه إنني لكم منه نذير وبشير) 1 و 2 من سورة هود، ويقول اللًه: (ثم
أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا اللًه
مالكم من إله غيره أفلا تتقون) 31 و 32 من سورة المؤمنون، ويقول الرحمن:
(وسئل من أرسلنا من قبلك أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) الآيه 45
الزخرف، والآيات ببيان هذا الأصل كثيره.
ثم إن اللًه تعالى ختم رسالاته ببعثة عبده ورسوله محمد بن عبداللًه صلى
اللًه عليه وآله وسلم، وكلفه بالإبلاغ والإنذار، فقال اللًه تعالى: (وأنذر
عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني
بريء مما تعملون، وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في
الساجدين، إنه هو السميع العليم)، الآيات من 214 حتى 220 سورة الشعراء،
قال ابن عباس رضي اللًه عنهما: " لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)، صعد
النبي صلى اللًه عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي،
لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر
ماهو ؟، فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي
تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا،
قال: أني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم،
ألهذا جمعتنا ؟، فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب)
أخرجه الإمام البخاري رحمه اللًه (8 / 406 مع الفتح) أهـ.
ومكث عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة ثلاثة عشر عاما، حتى إذن اللًه
تبارك وتعالى له بالهجرة لطيبة، وطيلة المُكث صبر على ما جهرت له قريش من
الأذى والعداوة، " وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه.. حتى فتنوهم عن دينهم،
ونفوهم من بلادهم، فهم من بين مفتون في دينه، ومن بين معذب في أيديهم،
وبين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة،
وفي كل وجه "، (سيرة ابن هشام 1 / 423) أهـ، وهم في كل ذلك أهل صبر
ومصابرة، وقتل تحت سياط التعذيب منهم من قتل، وعُذب من عُذب، حتى كان
الرجل يأتي الرسول صلى اللُه عليه وسلم، ويشكو له قائلا: ألا تستنصر لنا
؟، ألا تدعو اللًه لنا ؟، فيقول صلى اللًه عليه وآله وسلم: " كان الرجل
فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه،
فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من
عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، واللًه ليتمن هذا الأمر، حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللًه أو الذئب على غنمه، ولكنكم
تستعجلون "، أخرجه الإمام البخاري (6 / 483 مع الفتح) أهـ.
وقد أخبر الحق سبحانه أن من الرسل من قد قُتل، فقال: (ولقد آتينا موسى
الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح
القدس، أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم
وفريقا تقتلون) الآيه 87 سورة البقره، " فمحمد صلى اللًه عليه وسلم، جاءنا
من عند ربنا بالبينات والهدى، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بشيرا
ونذيرا، فأول ما أنزل اللًه عليه: (يا أيها المدثر، قم فأنذر)، أراد
الإنذار عن الشرك، قبل الإنذار عن الزنا والسرقة، ونكاح الأمهات "، (الدرر
السنية، 1 / 166) أهـ.
فنهج الرسل عليهم السلام، نهج بيّن لائح، خطه اللًه عز وجل، وأخبرنا عنه في كتابه الكريم،
إذ لم تكن دعوتهم دعوة قائمة - فحسب - على التحاكم إلى شريعة لفصل
الخصومات، والبت في المنازعات، ولم يكن همّ الرسل عليهم السلام جمع الناس
على شريعة يتحاكمون إليها وكفى، بل لم تكن الشريعه وسيلة لهم لجمع القلوب،
بل بدأت دعوآتهم أول الأمر بالدعوة لتوحيد الباري عز شانه، فــ " اللًه
سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لأجل التوحيد... فإذا لم يفعله
الإنسان، ويجتنب الشرك، فهو كافر، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل
ويصوم النهار... وتصير عبادته كلها: كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة... "،
(الدرر السنية، 1 / 158) أهـ.
إن كتاب ربنا " ظل يتنزل على رسول
اللًه صلى اللًه عليه وسلم ثلاثة عشر عاما كاملة، يحدثه فيها عن قضية
واحدة.. لا تتغير، لقد كان يعالج القضية الأولى.. القضية الأساسية.. قضية
العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من
علاقة.. ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم
عليها من التفريعات بنظام الحياة، إلا بعد أن علم اللًه أنها قد استوفت ما
تستحقه من البيان، وانها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة
المختارة من بني الإنسان.. لقد شاءت حكمة اللًه أن تكون قضية العقيدة هي
القضية التي تتصدى الدعوة لها ومنذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول
اللًه صلى اللًه عليه وسلم.. بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللًه،
وأن يمضي في دعوته يُعرّف الناس بربهم الحق، ويُعبّدهم له دون سواه، فلم
كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟، ولم اقتضت حكمة اللًه أن تبدأ بكل
هذا العناء ؟.
لقد بُعث رسول اللًه صلى اللًه عليه وسلم بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب
وأغناها ليست في أيدي العرب، إنما هي في يد غيرهم من الأجناس، بلاد الشام
كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان، وبلاد
اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس..
وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة.
كان في استطاعة محمد صلى اللًه عليه وسلم وهو الصادق الأمين، الذي حكمه
أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر
عاما.. أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها
الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة
من...
الرومان.. والفرس.. وإعلاء راية العربية والعروبة...، وربما قيل: إن محمدا
صلى اللًه عليه وسلم كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة،
وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة... أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة
التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم
لسلطانه.
ولكن اللًه سبحانه وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى اللًه عليه وسلم
هذا التوجيه، إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللًه، وأن يحتمل هو
والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء، لأن الجنسية التي يريدها الإسلام
للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي
وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللًه.
وكان في استطاعة رسول اللًه صلى اللًه عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية،
وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع
ورد أموال الأغنياء على الفقراء...، وربما قيل: إن محمدا صلى اللًه عليه
وسلم كان خليقا.. أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة..
ويستخدم مكانه.. وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه.
ولكن الًله سبحانه لم يوجهه هذا التوجيه، لأن العدالة الاجتماعية لا بد أن
تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله للًه، ويقبل عن رضى
وعن طواعية ما يقضي به اللًه من عدالة في التوزيع، ويستقر معه في قلب
الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللًه، فلا تمتلىء قلوب بالطمع،
ولا تمتلىء قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسف والعصا، وبالتخويف
والإرهاب.
وكان في استطاعة محمد صلى اللًه عليه وسلم أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول
تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتعديل القيم والموازين.. وربما قيل: إنه
لو صنع رسول اللًه صلى اللًه عليه وسلم ذلك فاستجابت له.. جمهرة صالحة،
تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها.. بدلا
من أن تثير دعوة أن لا إلا اللًَه المعارضة القوية منذ أول الطريق.
ولكن اللًه سبحانه لم يوجه رسوله صلى اللًه عليه وسلم إلى مثل هذا الطريق،
لأن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، وتقرر القيم، وتقرر السلطة
التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم، كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه
السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين، وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل
القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان،
وبلا جزاء.
فلما تقررت العقيدة بعد الجهد الشاق، وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه
العقيدة، لما عرف الناس ربهم، وعبدوه وحده، لما تحرر الناس من سلطان
العبيد، ومن سلطان الشهوات، لما تقررت في القلوب (لا إله إلا الًله) صنع
اللًه بها، وبأهلها كل شيء "، (في ظلال القرآن 2 / 1004 بتصرف) أهـ.
فالدعوة الإسلامية بدأت في التعامل مع القاعدة البشرية كما هي،
أو قل: مع المجتمع بكافة أطيافه وتشكلاته، عارضة نفسها على جميع تكوناته،
صغيرا وكبيرا.. غنيا وفقيرا.. عربيا وعجميا.. سيدا ومسودا.. أميرا
ومأمورا.. حرا وعبدا..، لا فرق ولا تباين بينهم لديها، إذ أكرمهم عند
اللًه أتقاهم، ولم تحاول القفز فوقهم، ولم تنظر نظرة علً لهم، ولم تصلح
عقائدهم وواقعهم عبر إزاحة طواغيت الجاهلية بقوة مادية أو انقلاب ثوري،
فالتربع على عروشهم، ثم التفرد بالأمر والنهي، والتوحد بالسلطة والسطوة،
فالتوجيه والإرشاد لإصلاح العقيدة، وإقرار الشريعة، كلا لم تفعله !.
ولقد كان بوسعها، إذ الإله الحق مُرسلها وباعثها، والوحي مددها، والحق
تدور بمعيته حيثما يدور، بل وتدعو له، ولا تخطو إلا به، وعليه، وإليه، ولم
تستهن بما حواه المجتمع من تناقضات، وتباينات، وأخلاط من النفوس، وغُثاء
من العقول، لا تظهر وآثارها إلا بعد حين، وبُروُزها نَاتج تخطيها لها،
وعدم ابتلاءها واختبارها، ولعدم زحزحتها الخبيث عن الطيب، بعلة اجتناء
الثمرة بخطفة، وقطف الزهر بلمحة، وتناول القمر بقبضة.
كلا!، لم يكن ذا سبيل الدعوة، بل كان سبيلها هو " صلاح الاعتقاد لأن
الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات
الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر، وأما الصلاح
الجماعي فيحصل أولا: من الصلاح الفردي، إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا
يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه... "،(تفسير ابن عاشور، 1 / 36) أهـ.
إنّ من مقاصد الشرع الحنيف " تعليم العقد الصحيح، وهذا أعظم سبب لإصلاح
الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويُطهر
القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدُهرية وما بينهما، وإليه الإشارة
في قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون اللًه من شيء لما
جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) الآيه 101 سورة هود، فأسند لآلهتهم
زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة، ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة "،
(تفسير ابن عاشور، 1 / 37) أهـ.
وحديثنا هنا عن العقيدة نختمه بالقول:
مرادنا بما سلف وجوب إيضاح العقيدة ببث فقهها بين الأمة - كمجموع - وإصلاح
معتقدها، وعدم اليأس في هذا السبيل أو محاولة بلوغ قمة الجبل بخطوة أو
الظن في الأمة ببلوغها رتبة في الفساد لا يتأتى معها إصلاح !، إذ مُجتمع
الجاهلية الذي بُعث فيه الرسول الكريم صلى اللًه عليه وآله وسلم أشد
إيغالا في الفساد، وليس بعد الشرك الذي هو مادة الفساد وأصله، فساد،
ومُجتمعاتنا - على ما فيها - لم تعدُم خيرا، ولن تعدُمه، وليس بعد البعثة
المُحمدية - على صاحبها أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم - جاهلية مطلقة.
ولا يفهم مما سلف: إنّ على الأمة الرضى بالواقع، والتسليم بالضعف، ومن ثم
ليس لها دفع صيال الكافر المُكاشح بعدائه لها، ومُجاهدته، وإلا جرّت على
نفسها الفساد والفتن !، كلا ليس هذا مُرادنا.
بل المقصد: التذكير بالدعوة النبوية ونقطة انطلاقها، فإنك لا تجد حدثا أو
موقفا مرّ بدعوة إصلاحية لاحقة، إلا وقد مضى نوعه على الدعوة النبوية
وكيفية مُعالجته، إذ دعوة رسول اللًه صلى اللًه عليه وسلم واجهت الجاهلية
المطلقة، وجاءت بالدين الكامل، وهي منبع الدعوات الإصلاحية لهذه الأمة،
ولولاها لما كان لغيرها عين ولا أثر، ولها الفضل عليها ليوم الدين، ولا
جهاد أعلى من جهاده عليه الصلاة والسلام، والدعوات الإصلاحية - عبر
تأريخنا - دعوات للأمةالاستفادة منها، والنهل من موردها، ولكن لا يتعين
السير على دربها خطوة خطوة، إذ الواجب ما أوجبه الشرع، ولم يُوجب الشرع
إلا اتباع رسول اللًه صلى اللًه عليه وسلم، ثم إن الظروف المحيطة بدعوى
إصلاحية قد تختلف عن أخرى، وما يتوافر لدعوة إصلاحية قد لا يتوافر لإخرى.
ولقد تعرضت الأمة في - إيامها الخالية - لهجمة صليبية، وغزوة تترية،
وانتشار للباطنية، واستيلائهم على كثير من ديار الإسلام، فكسر الصُلبان -
حينها - وشوكتهم، وهشم التتر - يومها - وياسقهم، ودفن الباطنية - زمنها -
وعقائدهم، إن كان قد تأتىّ لمن سلف بطريق ودرب، فلا يعني أن ذات الدرب
علينا سلوكه، بعلة أن التأريخ يُكرر نفسه !، إذ التأريخ ليس مصدرا تستقى
منه الأحكام الشرعية !، ولا نظن قائلا به يقول.
إنما هو - أي التأريخ - وعاء، يضم حوادث وأخبار آل آدم على تباين أديانهم
وقومياتهم، ولم يحتويها إلا بعد وقوعها، ولنا الإستفادة من أخباره، وكتاب
ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام فيهما الغنية، ثم إن دعوات الأنبياء
والرسل - عليهم السلام - مما حواه وعاء التأريخ، وهم أولى بالاتباع
والأقتداء، بل أوجبّ، يقول الحق سبحانه: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي
الألباب)، جزء من الآية 111 من سورة يوسف، ويقول الحق سبحانه: (أولئك
الذين هدى اللًه فبهداهم اقتده)، جزء
من الآية 90 من سورة يوسف.
هذا وتصحيح العقيدة في مُجتمعات الأمة لا يحول دون سلوك مسلك الجهاد،
والأنضواء تحت راية من راياته القائمة بأرض فلسطين أو الشيشان أو
أفغانستان أو العراق، إذ ترك الجهاد في سبيل الًله عزّ وجلّ سبب من أسباب
طلول الفتن على الأمة، وظهورها في مجتمعاتها، وابتلاء بعضها ببعض، ولما
انصرفت الأمة - كمجموع - عن قتال أعداء اللًه ابتلاها الًله عز وجل
بالعداوة فيما بينها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللًه (في
- مجموع الفتاوى، 15 / 44):
" فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الًله فقد يبتليهم بأن يُوقع بينهم
العداوة حتى تقع بينهم الفتنة، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبل
اللًه، جمع اللًه قلوبهم، وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدو اللًه وعدوهم،
وإذا لم ينفروا في سبيل اللًه عذبهم اللًه، بأن يُلبسهم شيعا، ويُذيق
بعضهم بأس بعض "، أهـ، وتدبر واقعنا تجده كما قال رحمه اللًه تعالى، وانظر
- هدانا اللًه وإياك - إلى التفرق الحاصل بين أهل السُنة والجماعة، فقد آل
حالهم إلى جماعات، وفرق، وأحزاب، وبينهم من الخلاف والعداوة ما اللًه به
عليم، وأمور لا تعدّ ولا تحصى، ومن ظن الخير في نفسه دُون الناس أو أنه لا
يُرتجى إصلاحهم إلا بالجلوس على عرش سلطان أو كُرسي حاكم، فقد أساء الظن
وظلمهم.
وهل تُراه - هدانا اللًه وإياك: " مقاومة الغربيين وغيرهم موكولة إلى آراء
كاسدة، وعقول هزيلة ؟، وكيف يترك الأمة نبيها في مثل هذه الأمور العظيمة
بلا دلالة ولا هداية ؟، هذا ظن من لم يعرف النبي صلى اللًه عليه وسلم،
ومُرسله سبحانه وتعالى المعرفة اللائقة، والشر لا يأتي بالخير، والكتاب
والسنة فيهما ضمان النصر، وتكفل العزة لمن عمل بهما، وما جاء هذا التسليط
إلا بتضييع ذلك، والإعراض عنه "، (الحق الدامغ للدعاوي، للشيخ عبدالكريم
الحميد، ص 276، بتصرف) أهـ.
ويبقى أن يرى كل منا الإسلام علً على غيره من الأديان، ودعوته ظاهرة على
الملل والنحل، وأهله في عزة ورفعة، أمنية لكل صادق الإيمان، وليس على
اللًه بعزيز، ولكنه سبحانه وتعالى يبتلينا ويختبرنا، فليبذل كل منا وسعه -
حسبما يُقرّه شرعنا الحنيف - في خدمة دينه، والدفاع عنه، خدمة لا تنحصر
بنطاق دون آخر، ودفاع لا يقتصر في جانب دون غيره.
هذا..، و " لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق "،
كما قاله رسولنا الكريم صلى اللُه عليه وآله وسلم، فيما أخرجه الإمام مسلم
- رحمه اللًه - عن أبي ذر رضي اللًه عنه،(مختصر مسلم للمنذري، ح 1782)،
وهو في الكتاب العزيز (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره)، 7 و 8 من سورة الزلزلة، واللًه الهادي، فنسئله - لنا ولكم -
الهداية والتوفيق لسواء صراطه المستقيم.