فأما الجهر بها ففرع على هذا فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها
وكذا من قال إنها آية في أولها وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا
فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو مذهب
طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفا وخلفا فجهر بها من
الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية وحكاه ابن عبد البر
والبيهقي عن عمر وعلي ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر
وعثمان وعلي وهو غريب ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة
والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد
وسالم ومحمد بن كعب القرظي وعبيد وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي
وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد
ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب
بن أبي ثابت وابن الشعثاء ومكحول وعبد الله بن مغفل بن مقرن زاد البيهقي
وعبد الله بن صفوان ومحمد ابن الحنفية زاد ابن عبد البر وعمرو بن دينار
والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة فيجهر فيها كسائر أبعاضها وأيضا فقد روى
النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه عن
أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم
صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي
وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي وليس إسناده
بذاك وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال صحيح . وفي صحيح
البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
كانت قراءته مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن
ويمد الرحيم . وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة
ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقطع قراءته" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
الرحمن الرحيم مالك يوم الدين " وقال الدارقطني إسناد صحيح . وروى الإمام
أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس بن معاوية صلى بالمدينة
فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك فلما صلى المرة الثانية
بسمل . وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج
لهذا القول عما عداها . فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها
وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر . وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر
بالبسملة في الصلاة وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل
وطوائف من سلف التابعين والخلف وهو مذهب أبى حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل
. وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهرا ولا سرا واحتجوا
بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب " الحمد لله رب العالمين"
وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون ب " الحمد لله رب العالمين" ولمسلم
لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها ونحوها في
السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في
هذه المسألة وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر
ولله الحمد والمنة . فصل في فضلها قال الإمام العالم الحبر العابد أبو
محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره حدثنا جعفر بن مسافر
حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن
طاوس عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "
بسم الله الرحمن الرحيم " ؟ فقال" هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم
الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب " وهكذا رواه أبو
بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به
. وقد روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن
يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن عيسى ابن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له
المعلم : اكتب فقال : ما أكتب ؟ قال : بسم الله قال له عيسى : وما بسم
الله ؟ قال المعلم : ما أدري ؟ قال له عيسى : الباء بهاء الله والسين
سناؤه والميم مملكته والله إله الآلهة والرحمن رحمن الدنيا والآخرة
والرحيم رحيم الآخرة " وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء
الملقب بابن زبريق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي
مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد . قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا غريب جدا وقد يكون صحيحا إلى من دون
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات
والله أعلم . وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله وقد روى ابن مردويه من
حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية
عن أبى بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنزلت علي
آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري وهي " بسم الله الرحمن
الرحيم " وروي بإسناده عن عبد الكريم الكبير بن المعافى بن عمران عن أبيه
عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال : لما نزل "
بسم الله الرحمن الرحيم " هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر
وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء وحلف الله تعالى بعزته
وجلاله أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه . وقال وكيع عن الأعمش عن
أبي وائل عن ابن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة
عشر فليقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " فيجعل الله له من كل حرف منها جنة
من كل واحد ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث " لقد رأيت
بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها " لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا
مباركا فيه من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك . وقال الإمام أحمد بن
حنبل في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال : سمعت أبا
تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال : عثر بالنبي صلى الله
عليه وسلم حماره فقلت : تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا
تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته وإذا
قلت بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب " هكذا وقع في رواية الإمام أحمد
وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفسيره من حديث خاله
الحذاء عن أبي تميمة وهو الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه
قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال " لا تقل هكذا فإنه
يتعاظم حتى يكون كالبيت ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة"
فهذا من تأثير بركة بسم الله ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول . فتستحب في
أول الخطبة لما جاء " كل أمر لا يبدأ فيه ب " بسم الله الرحمن الرحيم "
فهو أجذم وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك .
وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي
هريرة وسعيد بن زيد وأبى سعيد مرفوعا" لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه
" وهو حديث حسن . ومن العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا ومنهم من قال
بوجوبها مطلقا وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة وأوجبها
آخرون عند الذكر ومطلقا في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء
الله وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه إن
ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات " وهذا لا أصل له ولا
رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها . وهكذا تستحب عند الأكل
لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي
سلمة " قل بسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " ومن العل